الجمعة، 27 مارس 2015

الدين والثورة

اعتبر ماركس الدين أفيونا للشعوب، وهو كذلك ما دام تحت سيطرة الطغاة والمستبدين، يوظفونه لفرض الاستكانة والخضوع على جموع المقهورين، ويجعلونهم يحلمون بعالم الكمال والرفاه المغاير لهذا العالم الزائل، شرط أن يترك هذا العالم لهم، وأن يقتنع البؤساء بقدرهم المكتوب ويرضوا به، ما داموا سيحضون بالآخرة، بل إنهم يذهبون به إلى أبعد من ذلك، فعن طريقه تمرر أعظم الدسائس التي تمليها الإمبريالية على عملائها المحليين.
وهو لم يعد كذلك، مادام قد هيج فئات واسعة من المستضعفين بأمريكا اللاتينية، بالخصوص، ولَفَهُم حول ما يعرف بلاهوت التحرير، التي صوبت جام غضبها على الرأسمالية، ونادت بأفكار تحررية واشتراكية، وكانت أعظم حليف لليسار. كذلك شأن الأصولية الإسلامية، لكن على نحو مغاير، فهذه تلعب دور مهيج رجعي، رغم ذلك لا تصل به إلى النهاية كما سنرى فيما بعد، وعليها سنسلط الضوء في هذا المقال.
فعلا، فالأصولية الدينية، أو الرجعية الدينية، تلعب دور مهيج كبير في أوساط مجتمعاتنا، وأبلغ دليل على ذلك، ما تحشده خلفها من أتباع، وتمثل أكبر وأقوى منافس لليسار، عكس لاهوت التحرير الذي كان حليفا لليسار كما سبق وأن أشرنا إلى ذلك، هذا يعود بشكل جدري إلى الظروف التي ساهمت في بروز كلا الطرفين، فلاهوت التحرير كان تحت تأثير المد الثوري الشيوعي الذي عرفته أغلب بلدان العالم في حقبة الخمسينيات والستينيات، وبدأ ينظر إلى الشيوعية، سواء من طرف حركات التحرر الوطني وكذا لاهوت التحرير، كبديل عن الطبيعة الاستعمارية والاستغلالية للرأسمالية. لكن الإسلام السياسي هو مولود الإمبريالية وعملائها المحليين داخل كل بلد، في صراعهما لمحاصرة المد الشيوعي بإثارة العاطفة الدينية، فالكل يتذكر دور أمريكا في خلق الطالبان، كذلك تركيا خلال الحرب الباردة، أمام الصعود المتعاظم لليسار الجدري، تعرضت لما يسمى ب "إعادة الأسلمة"، بعد الانشقاق الذي قاده عدنان مندريس، في صفوف الكماليين العلمانيين، ليحقق الحزب المنشق «الحزب الديمقراطي» سنة 1950 انتصارا كبيرا، لهذا الغرض قام عدنان مندريس بمضاعفة ميزانية هيئة الأوقاف التركية ثلاث مرات، وأباح للمساجد الأذان باللغة العربية بعد أن حظره أتاتورك، وكذلك تم فرض إلزامية التعليم الديني على التعليم الابتدائي ...
لن يفوتنا كذلك مثال الجزائر، فقد شجع بومدين في أواخر الستينات الحركة الإسلامية المعتدلة لمواجهة اليسار ومعارضيها القدماء داخل حركة التحرير التي حاربت المستعمر الفرنسي، فقد ضمن سيادته بعد توظيف الحساسية الدينية، خاصة بعد الحملة التي قام بها مولود قاسم، وزير الدين والتعليم، والتي استنكرت "انحطاط الأخلاق" و" التأثير الغربي" المتمثل خلف شعار " الانفتاحیة " و" شرب الخمور " و" الإحساس بالدونیة الذي يتمثل في اتباع الغرب دائما والملابس النصف عارية".
وما كان للإسلام السياسي دائما أن يخدم مصالح الإمبريالية وكلابها، إذ نجده يحارب الصهيونية في فلسطين تحت لواء حماس، كذلك الطالبان، هي أشد مناهضي أمريكا والأمثلة وفيرة في هذا الصدد. لذا سوف نحاول فهم حدود الفعل النضالي لدى الإسلام السياسي.
تعتبر مقولة "الإسلام السياسي رجعي" جد جوفاء في غياب الاستناد المسهب على دورها في الثورات، فقد نجدها أحيانا تلعب أدوارا كفاحية عجز عنها اليسار كما هو الشأن بالنسبة لحماس وحزب الله، إلا أن هذه الكفاحية محكومة بالطبيعة الطبقية لهذه الحركات، فتحول دون بلوغ تحقيق أهدافها التقدمية (محاربة الصهيونية) ولا أهدافها الرجعية (إقامة دولة إسلامية)، ويفسر انتصارها في إيران أو السودان أو الجزائر نوعا ما، في بداية التسعينيات، إلى الأخطاء النظرية وكذا تهاون اليسار، وتبقى مقولة " لم تعد وليس بعد" أو "السياسة تخشى الفراغ" أبلغ تفسير لصعود التيارات الإسلامية داخل هذه البلدان، ولا يعود السبب في ذلك إلى القوة النظرية أو التنظيمية لهذه التيارات، كما لا يدل انتصار لويس بونابارت سنة 1952 على عبقرية نفاذة. "الثامن عشر من برومير لويس بونبارت" كارل ماركس.
تستقطب الحركات الإسلامية أغلب أتباعها داخل البرجوازية الصغيرة، ويشهد غيابها في أوساط الطبقة العاملة، أو أن تأثيرها جد محدود، نظرا لافتقارها إلى حلول عملية للمشاكل اليومية التي تعيشها هذه الطبقة.
كانت تجربة النقابات الإسلامية في الجزائر أخلاقية أكثر مما هي سياسية، فقد كانت دعايتها تتخذ منحى الإخاء والتعاون بين البرجوازية والعمال، مع التشديد على واجبات العمال، لذا فقد حددت مصيرها مسبقا.
كان من أحد أسباب الاستقطاب الجماهيري الذي حظيت به الجماعات الإسلامية، هو التشويه المتعمد لسياسة الإصلاح الزراعي، أحد النقاط الجوهرية في برنامج اليسار، ففي الجزائر –في عقد السبعينات- أدت سياسة الإصلاح الزراعي إلى تيئيس فئات واسعة من الفلاحين الذين لم يستفيدوا منه، حيث وضعهم بين فكي مواجهة البؤس أو الهجرة نحو المدن، فقد شمل الإصلاح فئات محدودة فقط، كما أن التحريض الإسلامي ضد الإصلاح الزراعي أدى إلى استقطاب ملاكي الأراضي القدامى الذين تمت مصادرة أراضيهم، فامتنعوا في المقابل عن بيع الحبوب، مما أدى إلى إحباط حتى الفئات القليلة التي استفادت من الإصلاح.
على نفس المنوال تكررت الأسطوانة في إيران، فالإصلاح الزراعي الذي أشرف عليه الشاه في بداية الستينات والذي شمل فئات قليلة من الفلاحين أدى إلى تأليب الغالبية العظمى ضد الدولة، كما أن القمع الذي مارسته الدولة ضد الإسلاميين ساهم في تعلق الساخطين بهم.
كما أدى الإصلاح الزراعي الذي أشرف على تطبيقه الحزب الشيوعي الأفغاني الذي سيطر على السلطة بعد انقلاب 1978، إلى سلسلة من الانتفاضات.
إضافة إلى أن الجماعات الإسلامية لم تقصر عملها في الجانب التحريضي ضد سياسات الدولة، فقد دأبت على توفير خدمات اجتماعية عجزت الدولة عن توفيرها، وأنشأت جمعيات خيرية لإعالة المعوزين، كما شهدت تجربة إيران تنظيم "جمعيات الطلاب المسلمين" و"جمعيات المهندسين الإسلامية"، التي لفت إلى جانبها فئات واسعة من البرجوازية الصغيرة.
إلا أن عدم التجانس واحتداد الفوارق الطبقية داخل الجماعات الإسلامية، بين قيادة تغتني من مجموعة من الموارد المالية، كما سنرى لاحقا، وقاعدة مكونة من طبقة متوسطة ثم جمهور الفقراء والمهمشين، سيحكم مسارها النضالي وسيساهم في تفرخها وتأرجحها بين سياسات ثورية وأخرى إصلاحية.
الإخوان المسلمون:
جماعة الإخوان المسلمين، التي أسسها حسن البنا في أواخر العشرينيات، بنيت على أساس ديني، يستنكر الاستعمار الإنجليزي ويصبوا إلى قيام دولة إسلامية، وقد عرفت في هذه الحقبة ازدهارا كبيرا لعدة عوامل من ضمنها:
-         تخلف اليسار عن أداء أدواره المرحلية.
-         المساومة التي عقدها حزب الوفد مع البريطانيين.
-         تأييد الحزب الشيوعي الستاليني لقيام دولة إسرائيلية.
 في المقابل، قام الإخوان بتجنيد المتطوعين للحرب في فلسطين، فبدوا كقوة مناهضة للصهيونية والإمبريالية، لكن أمام الضربات المتتالية للصهيونية، ظهرت تدبدبات وسط أغلب القيادات، فبدأوا يحاولون السيطرة على وضع القاعدة، إلا أنهم فشلوا في منع ظهور تفريخات  لتنظيمات سرية إرهابية،  ولم يكن بوسع القيادة إلا استنكار الأفعال الإرهابية لهذه التنظيمات التي تمردت على القيادة نتيجة دخولها في مساومات مع الجناح اليميني لحزب الوفد.
 عرف الإخوان المسلمين تراجعا كبيرا في حقبة الناصرية، جراء القمع وتدبدب القيادة، التي عرفت تصدعا منذ بداية الانقلاب، حيث ظهر خط معارض لجمال عبد الناصر، وآخر أيد الانقلاب، معتبرا إياه خطوة أولى في طريق تحقيق المشروع الإخواني. وانتصر الخط الأخير في البداية، حيث ضم إلى مجلس الثورة أحد أعضائه وهو سيد المدني، ولكنه سرعان ما اختلف معهم على منهجية تسيير الأمور، مما اضطره إلى الانفصال عنهم.
اعتقل وأعدم العديد من أعضاء القيادة عقب المحاولة الفاشلة لاغتيال جمال عبد الناصر سنة 1954، وتم تفكيك أغلب أجهزتهم التنظيمية، إلا أن الجماعة استطاعت استرجاع أنفاسها في عهد السادات، حيث غدت شبه شرعية، ما ساهم في اغتناء القيادة بشكل كبير في هذه الفترة، إذ هاجرت أغلبها إلى السعودية، مما زكى انحرافها عن الخط الثوري الذي رسمه حسن البنا منذ التأسيس، ويمثل كتاب "دعاة لا قضاة" لأحد قياديها، انعكاسا لهذا الانحراف. حيث وجهوا سياستهم نحو الدعاية والإصلاح التدريجي، في أفق أن تصبح معارضة شرعية، ووقفوا بجانب السادات، كما تشهد سنوات السبعينيات على ذلك، حيث انتهجوا ما أسموه بتطهير الجامعة من الملحدين اليسار والشيوعيين أمام أنظار النظام، دون أن ينبس ببنت شفة. كما اعتبرت الانتفاضات الشعبية التي عمت البلاد سنة 1977 ضد الارتفاع المهول للأسعار مؤامرة شيوعية، واصطفت مرة أخرى إلى جانب النظام.
هذا الاغتناء المتعاظم للقيادة حكمت جميع سلوكيات الحزب، فاعتبرت المهام الآنية لها هي نشر الأخلاق ومحاربة الرذيلة، واعتبروا العدو يتمثل في الغرب الكافر وفي الأقباط المسيحيين، إلا أن هذه الأفكار لم تكن لتشفي غليل القاعدة من الفقراء، فظهرت جماعة "التكفير والهجرة" بقيادة مصطفى شكري، حيث اعتبرت المجتمع جاهلي وكافر، فاختارت هجره، واعتبرت الإطاحة بالدولة أحد أهدافها الرئيسية، واستلهمت أغلب أفكارها من كتاب "علامات على الطريق" للسيد قطب. كما ظهرت جماعة الجهاد بقيادة عبد السلام فراج التي اعتبرت العدو داخلي وجسدته في اغتيال السادات سنة 1981. إلا أنها دكت عن بكرة أبيها بعد هذا الاغتيال، لعدم استنادها على أي سند شعبي، ولاختيارها المسبق للانعزال عن المجتمع.
جبهة الإنقاذ الإسلامية:
كذلك الشأن بالنسبة لجبهة الإنقاذ الإسلامية في الجزائر، فقد خلقت أساسا، كما سبق وأشرنا، للقضاء على اليسار، وهذا ما يفسر هجومها الدموي على الشيوعيين بالجامعات ما بين 1976 و 1980. ونتيجة لأخطاء اليسار، فقد وجدت انتفاضات 1988 الساحة خالية منه، ولكون تلك الانتفاضات عفوية، فإنها لم تجد أي سند إلا من طرف الجبهة، مما استدعى محاورة نظام  الشاذلي لعلي بلحاج وعباس مدني – قياديي الجبهة - قصد تسكين الوضع. فأكسبها ذلك شعبية كبيرة تجلت بالخصوص في فوزها في أغلب الدوائر في انتخابات 1990 المحلية، مما أثار التخوف لدى المخزن، فهرول إلى تزوير الانتخابات، إلا أن الجبهة كانت تتمتع بدعم جماهيري كبير، كانت إحدى تجلياته اندلاع حرب أهلية وظهور جماعات إسلامية مسلحة، عجزت القيادة عن استوعابها، وخافت من أن تتطور الأحداث إلى ما لا تحمد عقباه، فتفلت القاعدة من عقالها.
إلا أن مسار الأحداث دفع بالجبهة إلى السيطرة على المدن الرئیسیة بین یونیو 1990 ومایو 1991، فقامت بإغلاق البارات، وإلغاء الحفلات الموسیقیة، ونشطت حملات "احتشام النساء"، لكنها لم تستطع الذهاب أبعد من ذلك، خاصة في تحقيق تطلعات أغلب الشعب الجزائري، فأعلنت معارضتھا لمطالب العمال بتحسین الأجور وكذلك للإضراب العام لیوم واحد الذي دعى إلیه اتحاد النقابات، لكن كلما ازدادت جبھة الإنقاذ قوة، كلما ترددت بین الھدوء والثورة، ولا تخطوا أي خطوة إلى الأمام إلا نتيجة ضغط ودفع قوي من طرف القواعد المتحمسة، وما إن فطن بعض القواعد للأمر حتى أعلنت انشقاقها، فظهرت "الحركة الإسلامية المسلحة"، واقتصر عملها في اغتيال ممثلي  النظام الفاجر، و"الجماعات الإسلامية المسلحة"، التي كان ضحایاها من الصحفیین، والكتاب، والشعراء والنسویین... واتهمت هذه التنظيمات الجبهة بالانتهازية والخیانة وبالتخلي عن برنامجھم فى التطبیق الكامل للشریعة. في حين سعت جبهة الإنقاذ إلى اقتسام السلطة لتطبیق جزء من الشریعة بعد أن كان بوسعها الاستيلاء عليها كاملة. وهذا التدبدب يفسر بالفجوة العميقة بين القيادة والقاعدة، فالجبهة تستفيد من دعم السعودية ومن هِبات المتعاطفين، وكذلك من "ضرائب" تؤخذ من القواعد، مما يجعل القيادة محافظة وجبانة عشية كل منعطف تاريخي.
الحزب الجمهوري الإسلامي:
أما بالنسبة لثورة 1979 الإيرانية، فقد كانت من صنع التناقضات الحادة التي عرفتها إيران منذ الخمسينيات، فقد أدى التمدين إلى ظهور تناقضات بين الرأسمال الحديث والقطاعات التقليدية الملتفة حول البازار، كما شهدت البلاد إضرابات عمالية كبرى أدت إلى تعطيل أهم حقول البترول، لعب فيها الحزب الشيوعي دورا هاما. وفي فبراير 1979 نجحت كل من عصابات الفدائيين اليسارية والعصابات الإسلامية اليسارية من مجاهدي "خلق" في إثارة تصدعات هامة في صفوف القوات المسلحة. إلا أن أحد الأوراق التي ساعدت الحزب الجمهوري الإسلامي في البروز، هو كون آيات الله الخومینى منفي، وكان يعتبر أهم أوجه المعارضة لنظام الشاه، ومع عودته إلى طھران في ینایر 1979 أصبح القائد الرمزي للثورة. إلا أنه وحزبه لم يلعبا أي دور في بداية الأحداث، كان انتشار الإضرابات داخل القوات المسلحة مستقلا عنهما، وكانت الجامعات تحت سيطرة الشيوعيين والمجاهدين، ومارست السلطة عدة لجان محلية مستقلة، وانتشرت مجالس العمال في المصانع.
وخلال الشهور الموالية، استخدم الحزب الجمهوري الإسلامي خطابات إسلامية لتحریك قطاعات من البرولیتاریا الرثة وراءھم في عصابات لمھاجمة الیسار، وفرضوا القیم الإسلامية  ضد النساء اللائي یرفضن ارتداء الخمار، واشتركوا مع الجیش في إخماد الحركات الانفصالیة.
لم يكن هذا النهج وفقط عاملا في انتصار الإسلاميين، ففي أواخر 1979 قامت باحتلال سفارة الولایات المتحدة والاحتفاظ بموظفیھا كرھائن، مثیرة بذلك مواجھة كبرى مع أكبر قوة امبریالیة في العالم. كما قامت بتطهير المصانع من المديرين والموظفين الأجانب بالتحريض على عزلهم، وفجرت "ثورة ثقافية" دموية بالهجوم على اليسار في الجامعات وصادرت الكتب التي اعتبرتها غير إسلامية، توافق هذا الفعل مع مصالح البرجوازية الذين رغبوا في التخلص من المحرضين اليسار في النقابات ، فتحالف الإسلاميون مع بن صدر الذي كانت له علاقات مع البرجوازية القائمة.
كما ساعدتها عوامل إقليمية في الاستيلاء على السلطة، كتقرب العراق من الولايات المتحدة لغزو إيران، ومحاولة و. م. أ احتلال السفارة الأمريكية بإيران. فاستعملت ذلك ذريعة للقضاء على منافسيها اليسار تحت مبرر أن الثورة مهددة.
كان تراث المجاهدين والفدائيين یعتمد على العصابات، واهتموا  قلیلا بالنشاط داخل المصانع خلال الأشهر الثمانیة الأولى من الثورة، وتجنبوا انتقاد الحكومة الدينية مخافة أن يضر ذلك بهم، خاصة وأنها انتهجت طريق مواجهة أمريكا، الذي كان بمثابة فخ نشبه الإسلاميون لليسار.
ضيع اليسار الإيراني عدة فرص للف الجماهير حوله، ففي أواخر فبرایر عندما نظم الفدائیون مظاھرة لأكثر من 80 ألف في جامعة طھران مطالبین بالإصلاح الزراعي، وإنھاء الرقابة على الصحف وحل القوات المسلحة، وقف المجاهدون بعیدا عن الأحداث. وفى أوائل مارس احتفلت النساء بالیوم العالمي للمرأة، وتظاھرن ضد مراسیم الخومینى لإلغاء قانون حمایة الأسرة، وفرض ارتداء الخمار في مكاتب الحكومة، وغيرها من القوانين التي تكرس "الجنس الأدنى"، في المقابل حذر المجاھدون على أن الامبریالیة كانت تستخدم ھذه الوسائل للتفریق والإجهاز على الثورة. وبعد احتلال سفارة الولایات المتحدة أصبح الیسار أقل انتقادا للخومینى من ذي قبل. استمر حزب توده ( الشيوعي الستاليني ) وغالبیة الفدائیین في تأیید الخومینى حتى عزز سلطته تماما سنة 1982 ، فانقلب ضدھم بعد ذلك.
 وبعد الحملة الدموية التي قام بها الإسلاميون ضد اليسار في الجامعات، التحق أخيرا مجاھدو خلق إلى المعارضة العلنیة للنظام خاصة بعد تعرض مؤيديهم للهجوم، إلا أن حرب العصابات التي انتهجوها أدت بهم إلى اغتيال شخصيات ترى الجماهير أنھا تلعب دورا عظيما ضد الامبریالیة. مما أعطى مبررا آخر للنظام لتصفية ما تبقى من مناضلي اليسار.
الجبهة الوطنية الإسلامية:
في عقد الأربعينيات، ظهر الإخوان المسلمون في السودان كامتداد  لحركة الإخوان المسلمين المصرية، إلا أنها انفصلت عنها تنظيميا ونظريا بعد قضاء عبد الناصر على المنظمة الأم في الخمسينیات، لتبني تنظيما محكما ساعد منذ بداياته في ارتقاء القيادة التي أصبحت بين عشية وضحاها طبقة من رجال الأعمال، فقد ساعدتھم سیاسة التوظیف بالبنك الإسلامي في ذلك، وأقامت مؤسسات إسلامیة، وامتلكت البنوك الإسلامية، إذ كانوا یمولون من السعودیة ورأس المال المحلى وهبات مناضلي القلب.
في انتخابات 1986 بعد الإطاحة بدیكتاتوریة النیمرى، حصلت الجبهة الوطنية الإسلامية – الإخوان على جزء هام من الأصوات، واتضح في الحال أن لدیھا تأییدا كافیا من طرف قطاع من الطبقات الوسطى الحضریة ورجال الإعمال، وكانت بذلك حليفا  لشخصیات ھامة في القوات المسلحة، مما ساعدها بعد الانقلاب الذي قاده الجنرال البشير عام 1989، في حيازة السلطة الفعلية للسودان، رغم أنها كانت شكليا في يد البشير.
كان مسار الإسلاميين في السودان مختلفا، فمنذ السبعینات عقدوا بعرض من النميري ما يسمى ب "المصالحة الوطنیة " حتى تنضم إلى نظامھ، وتحول حسن الترابي – مؤسس حركة الإخوان المسلمين بالسودان- إلى رجل قانون عسكري، مكلف بإعادة مراجعة القوانین لجعلھا تتفق مع الشریعة، مما ساعدها على تطوير القطاع المالي الإسلامي لتثبت جذورھا بین أصحاب رأس المال. كما ساعدها ذلك على كسب ضباط في الجیش.
إلا أن التعاون مع نظام تقل شعبیتھ يوما بعد يوم كان في غير صالح الإخوان، وشھدت أوائل الثمانينات انتفاضات شعبية واسعة، وإضرابات عمالية وطلابية وفي القضاء وشملت فيما بعد أغلب القطاعات، فبدأ الإخوان يخشون أن يدمروا جنبا إلى جنب مع الدیكتاتور النميري. وأعلن النميري تطبيقه للشريعة، فاندفع الإخوان خلفه بتوفير الطاقم البشري لمحاكم الشريعة، فبدأت تقطع يد السارق ويرجم الزاني، دون أن يحقق النظام أي تغيير في أوضاع الجماهير، ودون أن يلغى الفقر الذي هو من دواعي السرقة..
وجد الضباط المنقلبون في الإخوان ضالتهم، فهم، بنظرهم، الوحيدون القادرون على فرض الاستقرار في وضع مشحون جدا، إلا أن الإخوان لم يكونوا يتقنون إلا القمع الوحشي كإجابة للمشاكل الشعبية.
قام الإخوان بتطبيق برنامج "الإنقاذ الاقتصادي"، ويعني تحرير الاقتصاد الذي طالما دافع عنه صندوق النقد الدولي في الماضي، فقام الإخوان بتجدید المفاوضات مع الصندوق. أدت تلك السياسة إلى مزيد من التفقير ومزيد من تأجيج الأوضاع.
مرة أخرى يتخلف اليسار عن لعب أي دور لتغيير مجرى الأحداث، خاصة وأن الحزب الشيوعي السوداني كان أكبر القوى السياسية في الخمسينيات، إلا أنه بدل أن يختار برنامجا ثوريا للتغيير، دخل في حكومة غير ثورية سنة 1964، فانقلبت عليهم بمجرد أن هدأت الموجة الثورية في تلك الفترة.
حزب الله:
كانت الثورة الإيرانية والاجتياح الإسرائيلي للبنان سنة 1978 و 1982 عاملان حاسمان في ظهور "حزب الله" بلبنان، حيث تنظمت على شكل عصابات حربية، تعتمد عملياتها على مباغتة العدو، وكانت منظمة كفاحية ارتفع عدد عملياتها بشكل مطرد من سنة 1982 إلى 2000، مما ألحق أضرارا بليغة بإسرائيل، وكانت شوكة في حلق أمريكا والصهيونية. مما أدى إلى ازدهار كبير في شعبية حزب الله، ما حدا بغير الشيعة إلى السعي للانضمام إلى عمله المقاوم. فقد كانت مجموعات سنية تنسق أنشطتها مع حزب الله، علاوة على ألوية المقاومة اللبنانية التي تضم شيوعيين. كما نسق خلال حرب 33 يوما أعماله مع مجموعات مقاومة مستقلة.
إضافة إلى لعبه دور مقاومة شرسة ضد الكيان الصهيوني، فقد طور شبكته للحماية الاجتماعية، بمصحاتها، ومستشفياتها، ومدارسها، و بورصاتها الطائفية والتربوية، إلى حد أنها تفوقت على مؤسسات الدولة اللبنانية في ضاحية بيروت الجنوبية، وسهل البقاع وجنوب لبنان، كما إن له قناة تلفزية كاملة التجهيز، المنار.
كل هذا يفسر مدى الدعم الجماهيري الذي حشده حزب الله، إلا أن تحالفه مع القوى السنية أجبره على التخلي عمليا على مطلب دولة إسلامية شيعية.
إلا أن هذا لا يعني أن الحزب بني على أساس ديمقراطي، ففي بداية الثمانينات وجه سلاحه ضد الشيوعيين وضد منافسه الشيعي حركة أمل.
لكن المنحى الذي اتخذه فيما بعد، بعد أن وجد معه في نفس الجبهة شيعيين وغير شيعيين، أدى به إلى التنازل عن مطلب دولة إسلامية شيعية، كما أدى إلى ظهور انشقاقات في وسط القيادة، إلا أنه وقف عند هذا الحد، ونسي أنه يقاتل إلى جانبه غير إسلاميين أيضا، فلماذا لا يتخلى عن مطلب دولة إسلامية؟ في حين هناك مسلمون يتآمرون على القضية الفلسطينية ويطبعون مع الصهيون.
يستفيد حزب الله من دعم النظام الإيراني وكذا النظام السوري، كما يتسلم منحا من طرف الدولة اللبنانية، كل هذا سيلقي بحزب الله في المزيد من المساومات والتنازلات، كان أولها القبول في المشاركة في النظام بعد أن ندد به، وشارك في الانتخابات على قوائم شكلها سعد الحريري، الملياردير المرتبط بالسعوديين، ابن رئيس الوزراء الأسبق المغتال، كما أبرم اتفاقات مع الجنرال الماروني ميشال عون الذي كان وزيرا أولا سنة 1981 خلال الحرب الأهلية.
أدت مشاركته في الانتخابات كذلك إلى قبول ميزانيات رفيق الحريري التي لطالما صوت ضدها، كما قام بتوقيع اتفاق وقف إطلاق النار مع إسرائيل في المراحل الأخيرة لحرب 33 يوما نتيجة الضغوط التي حاصرته، مما أفقده استقلاليته، ووقع هذا الاتفاق بالرغم من أن هذا الأخير أبقى القوات الإسرائيلية بلبنان، ولم يمس الحصار الإسرائيلي.
اعتماد حزب الله على دعم الدولة اللبنانية ودعم أنظمة مهادنة حد من قدراته وفعاليته في النضال، وأفقده استقلاليته، كما أن اغتناء القيادة، صاحبة القرار، يزكي هذا الاتجاه، فبدأت تعتبر، شأنها شأن أي تنظيم جبان وعاجز عن إيجاد حلول عملية لمؤيديه، أن العدو خارجي يتمثل في الغرب، ولا يتعين في نظرها الإطاحة بأي دولة عربية مهما تورطت مع الامبريالية أو الصهيونية، بل يجب، حسب زعمها، أن تتصالح الشعوب مع حكامها.
وليس غريبا أن يتبع حزب مبني ومهيكل على نمط اقتصاد رأسمالي، شركات البناء والبنوك والمطاعم و...، أن يتبع سياسية محافظة.
حماس:
في 15 ديسمبر 1987 تم الإعلان الرسمي على تأسيس حركة المقاومة الإسلامية حماس كمنظمة وطنية جهادية تهدف إلى استرجاع فلسطين، أسس هذه الحركة الشيخ أحمد ياسين الذي اغتالته الصهيونية سنة 2004.
جاءت حركة حماس كرد فعل على تخاذل منظمة التحرير الفلسطينية بفصائلها خاصة حركة فتح التي استولت على القيادة منذ سنة 1969، فكثفت نشاطها العسكري ضد إسرائيل، وأنشأت جناحها العسكري المتمثل في كتائب القسام، وكانت منذ بروزها أعنف مقاوم للوجود الصهيوني في الأراضي الفلسطينية، مما أدى إلى اغتيال أبرز قيادييها، كيحيى عياش، مهندس العمليات الاستشهادية، عن طريق هاتف محمول مفخخ في يناير 1996، وفي 25 يوليو 1997 تمت محاولة اغتيال خالد مشعل القيادي في حماس عن طريق حقنه بمادة سامة من قبل عناصر من الموساد –الجهاز المخابراتي الإسرائيلي- في العاصمة الأردنية عمان.
لم تعاني حركة حماس من ويلات العدوان الإسرائيلي فقط، بل عانت كذلك من مضايقات السلطة الفلسطينية التي كانت بيد حركة فتح، فقامت هذه الأخيرة بملاحقة واعتقال مناضلي حماس، وإحباط العمليات الاستشهادية وتفكيك معامل صناعة المتفجرات. كما قامت بتسليم مناضلين، مثل "خلية صوريف" التابعة لحماس، إلى إسرائيل.
أدت المقاومة التي نهجتها حماس، والتكالبات التي طالتها، إلى كسب تعاطف كبير في أوساط الفلسطينيين، تجسد هذا التعاطف في فوزها في انتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني في 25 يناير 2006، بحصولها على 56% من مقاعد المجلس. بعدها شكلت، لأول مرة، حكومة فلسطينية برئاسة إسماعيل هنية.
إلا أن فوز حماس أثار غيض إسرائيل وأمريكا، فتوالت المؤامرات والدسائس على الحكومة المنتخبة ديمقراطيا، ابتدأت بفرض حصار اقتصادي وسياسي على فلسطين عقابا لحماس وللشعب الفلسطيني الذي صوت لصالحه، تلا ذلك اعتداءات إسرائيلية  ونشر الفتنة في صفوف الفلسطينيين، فانفردت حماس بالسيطرة على غزة بعد معارك مع عناصر من فتح (9-14 يونيو 2007)، وقامت إسرائيل بتشديد الحصار والخناق على قطاع غزة.
تفاءل أغلب مناصري القضية الفلسطينية بصعود حماس إلى السلطة، آملين في أن تهيئ لهم ظروف أحسن مما كانوا عليه في ظل سيطرة فتح على السلطة، إلا أن العقوبات الاقتصادية التي فرضت على فلسطين حالت دون ذلك، فقد اشترطت اللجنة الرباعية (الولايات المتحدة، الاتحاد الأوروبي، روسيا، الأمم المتحدة) على الحكومة الفلسطينية نبذ العنف والاعتراف بإسرائيل والقبول بالاتفاقيات التي وقعتها الحكومات السابقة، وهي شروط تعني عمليا تخلي حماس عن نهج المقاومة، لذلك رفضت حماس قبول ذلك.
إلا أن السلطة الفلسطينية خلقت من أجل ذلك، أي أن تكبح حركة الشعب الفلسطيني، وهذا ما جاءت به اتفاقية أوسلو سنة 1993 التي أسست السلطة الفلسطينية الزائفة، فبقي أمام حركة حماس خيارين، إما أن تختار الاحتفاظ بالسلطة، وتكف عن مبررات وجودها، وإما أن تتخلى عنها وتعود إلى المعارضة كما كانت في السابق.
اختارت حماس البقاء في السلطة، ورفضت شروط اللجنة الرباعية، فامتنعت الدول المانحة (أوروبا وأمريكا) عن تقديم المساعدات التي تقدر بحوالي مليار دولار، كما امتنعت إسرائيل عن  تقديم حصيلة الضرائب والجمارك التي تحصلها على البضائع الفلسطينية عند المعابر التي تسيطر عليها، والتي تقدر بحوالي 55 مليون دولار في الشهر.
توجهت سياسة أمريكا إلى إثارة سخط الشعب الفلسطيني ضد حكومة حماس، ونجحت في ذلك مرحليا، فقد عجزت الحكومة على دفع مرتبات الموظفين ورجال الشرطة. واستغلت فتح ذلك، في تحالف مكشوف مع المستعمر، للتحريض ضد الحكومة قصد استرجاع السلطة، فخرجت قطاعات من رجال الشرطة والموظفين في مسيرات للمطالبة برواتبهم المتأخرة لثلاثة أشهر، واقتحم عدد من أفراد الشرطة المجلس التشريعي.
وكان رد فعل حكومة حماس هو خلق شريحة جديدة من الموظفين ورجال الشرطة تضمن ولاءهم، فقامت بتوظيف عدد كبير من أعضائها ومؤيديها، مما يعني بشكل مباشر تحويل المناضلين إلى موظفين يتقاضون رواتبهم ويتفانون في عملهم دون انتقاد رؤسائهم الحزبيين مخافة عزلهم عن الوظيفة، فتغاضوا عن مشروعهم الوطني وبرنامجهم السياسي، فتح ذلك الأبواب لمجموعة من الفئات الراغبة في الالتحاق بصفوف حماس طمعا في الوظيفة.
إلا أن السخط الشعبي لم يكن دائما في صالح إسرائيل، فسرعان ما فطنت حركات شعبية بالمؤامرات، خاصة بعد  قطع الكهرباء عن القطاع، وارتفع عدد الوفيات بشكل كبير نظرا لنقص الأدوية والرعاية الصحية، تجلى ذلك في محاولة أبناء القطاع كسر الحصار وتحطيم الحدود مع مصر في يناير 2008. ما حدا بإسرائيل إلى نهج سياسة مغايرة، لكن هذه المرة جاءت على شكل عسكري، فقررت توسيع العمليات العسكرية في القطاع، وقامت بتقوية نفوذ محمود عباس باعتباره الشخص الوحيد صاحب الشرعية في كل ما يخص القضية الفلسطينية، وأعاد عباس تشكيل قوات مسلحة خاصة جديدة بقيادة محمد دحلان، القائد السابق للأمن الوقائي، دون موافقة حكومة حماس.
تعاونت الحكومات العربية مع الصهيونية الإسرائيلية الأمريكية للتخلص من حماس، فقد قامت بتدريب وتسليح مليشيات مسلحة "فلسطينية" موجهة ضد حماس، كما توجهت عناصر من فتح إلى المؤسسة الأمنية الإسرائيلية لتطلب السماح بإدخال كميات كبيرة من العتاد العسكري من إحدى دول الجوار للحلول محل إسرائيل في دك حماس. كما قامت إسرائيل باعتقال 31 نائبا من المجلس التشريعي وعدد من الوزراء من حماس، لترجيح كفة فتح داخل المجلس، وتضاعف عدد الشهداء الفلسطينيين ثلاث مرات ما كان عليه العدد سنة 2005 أي قبل وصول حماس إلى السلطة، فبلغ العدد 650 شهيد سنة 2006، كما أسفر الهجوم الإسرائيلي على غزة في مارس 2008 عن سقوط 120 شهيد في ظرف 5 أيام فقط.
حملت فتح والأنظمة العربية حماس مسؤولية الاعتداءات الإسرائيلية، في حين اتجهت حماس نحو مهادنة بعض الأنظمة العربية الحليفة للولايات المتحدة الأمريكية وذات العلاقات الوطيدة مع إسرائيل، مثل مصر، والأردن، و قطر، والسعودية، ووافقت على اتفاق الهدنة مع الحكومة الإسرائيلية في 19 يونيو 2008 بوساطة مصرية.
 أصبحت بعد ذلك الأراضي الفلسطينية مقسمة سياسيا: فحركة حماس تؤمن سيطرتها على قطاع غزة، المحاصر والمقطوع عن العالم، وتقلصت مشاركتها في عمليات المقاومة إن لم تختف، واحتفظ محمود عباس الضفة الغربية وعين سلام فياض، الموظف السامي سابقا لدى صندوق النقد الدولي والبنك العالمي، وزيرا أولا، فكان هدفهم هو قمع حماس، ونزع سلاح المقاتلين و التطهير داخل أجهزة الأمن.
أوفت حماس بمضمون اتفاق الهدنة، فامتنعت عن إطلاق أي صاروخ، و كبحت عدة عمليات عسكرية للمنظمات الكفاحية الأخرى، وقامت باعتقال مناضلي هذه الأخيرة.
بدأت حماس تبحث عن الاعتراف الدولي، ونهجت طريق الحوار، كما صرح خالد مشعل، قائد حماس بالرغبة في إرساء دولة في حدود 1967 التي تمثل قاعدة التفاوض بالنسبة للمجموعة الدولية و السلطة الفلسطينية، مما يوضح أن حماس عازمة على الحفاظ على السلطة ولو على حساب المقاومة.
المغرب
قام عبد الكريم مطيع بتأسيس الشبيبة الإسلامية في ظرفية عرفت سيطرت القوى اليسارية على الساحة السياسية بالمغرب بخوض حرب حادة على كافة الجبهات، وكانت الشبيبة الإسلامية سلاحا في يد المخابرات المغربية الذي استعملها من أجل محاصرة المد اليساري، وصل إلى درجة تسليحها للقيام باغتيالات على رأسها حادث اغتيال القيادي في الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية عمر بنجلون في 18 دجنبر 1975.
ساعد ظهور هذا التنظيم الإسلامي في التفكير في البحث عن تنظيمات إسلامية حقيقية تنشد تغيير النظام برمته، في هذا السياق ظهر كتاب "الإسلام أو الطوفان" لعبد السلام ياسين، كرسالة مفتوحة وجهت إلى الحسن الثاني سنة 1974، كانت بمثابة نصيحة توجه بها ياسين إلى الملك قصد إرشاده إلى الطريق القويم، قضى على إثرها المرسل ثلاث سنوات من الاعتقال، كما أعاد الكرة لاحقا في رسالة "إلى من يهمه الأمر" والتي وجهت إلى محمد السادس، مضمون الرسالتين تدل على النهج الذي اتبعته الجماعة لبناء دولة الخلافة التي ينادون بها، كما يوضح ذلك أيضا كتاب "المنهاج النبوي تربية وتنظيما وزحفا" الذي صدر سنة 1981، والذي يوضح بجلاء استراتيجية الجماعة المتمثلة أساسا في تكثيف الدعوة والاستقطاب والبناء.
تعتبر جماعة "العدل والإحسان من أقوى التنظيمات السياسية بالمغرب والأقل فيها نشاطا سياسيا، لاعتمادها أساسا على الجانب التصوفي، لذلك يشهد لها شبه غياب على مستوى الميدان السياسي، عدا مسيرات موسمية للتضامن مع فلسطين أو العراق، وكذلك على مستوى القطاع الطلابي.
عجز النظام المغربي عن إخماد الإضرابات المتنامية للحركة الطلابية بقمعها فقط، فإضافة إلى القمع الشرس الذي عرفته الجامعة المغربية في عقد الثمانينيات، فرض النظام الحظر العملي على النقابة الطلابية أوطم، ودك بهياكلها التنظيمية تدريجيا باعتقال أعضائها، إضافة إلى ذلك، ساعد جماعة العدل والإحسان في الدخول إلى الجامعة بعد ارتكابها لمجازر شنعاء في صفوف مناضلي اليسار أمام مرأى البوليس المغربي، لتستولي الجماعة على أوطم، وتعيد هيكلتها وفق منظور لا يسمن ولا يغني من جوع.
أهم المحطات النضالية التي شاركت فيها الجماعة من داخل الجامعة كانت معركة النقل التي فجرها طلاب جامعة الدار البيضاء، واحتوتها الجماعة لصالحها بالتفاوض والمساومة مع النظام المغربي قصد رفع الإقامة الجبرية المفروضة على قائدها عبد السلام ياسين. كذلك شاركت الجماعة في الانتفاضة الشعبية التي  قامت بها ساكنة بوعرفة سنة 2006 احتجاجا على غلاء فواتير الماء والكهرباء، راغبين في الامتناع عن سدادها، مما أدى إلى تطويق المدينة عن آخرها. عشية الإضراب العام الذي قررته الساكنة في جمعها العام، والذي أدى إلى إنزال قمعي مكثف حاصر المدينة، نزلت الجماعة ببيان توضح فيه عدم مشاركتها في الإضراب، مما أدى إلى فقدان مصداقيتها وسط الساكنة، خاصة بعد انتصارهم في مواجهات بطولية مع قوى القمع.
وأحدث مشاركة ميدانية للجماعة كانت مع حركة شباب 20 فبراير، فقد شاركت منذ بدايتها بشكل مكثف، حتى قررت الانسحاب منها بدون أي مبرر محدد.
رغم عدم الفعالية الميدانية للجماعة، إلا أنها تلقى تخوفا كبير من طرف السلطات المغربية، خاصة وأن أكبر عدد المعتقلين السياسيين نالت فيه حصة الأسد، ففي ظرف سنتين فقط بين 2009 و 2011 تجاوز عدد معتقليها 6000.
خلاصة:
نتيجة للطبيعة الطبقية غير المتجانسة للحركات الإسلامية، تحدث تدبدبات في القيادة كلما بلغ الصراع أوجَه، فتميل القيادة المغتنية إلى سياسات محافظة، ينتج عن ذلك حدوث انشقاقات في القاعدة، لكن الوليد يعجز عن الإتيان ببديل استراتجي أو مجتمعي، فتتكرر معه نفس الأسطوانة.
ظهرت هذه التدبدبات بالنسبة للإخوان المسلمين في مصر خلال الثورة الأخيرة، فبعد أن بلغ الصراع مداه، ومع اقتراب ساعة سقوط حسني مبارك، دعت قيادة الإخوان قواعدها لمغادرة الشارع، إلا أن القواعد تمردت على قرارات القيادة، وتعزز خطها الانتهازي بعد سقوط الطاغية باصطفافها إلى جانب المجلس العسكري.
لا يشكل برنامج الإسلاميين أكثر من حبر على ورق، فالتشدد على ضرورة بناء دولة إسلامية وتطبيق الشريعة ليس إلا شعارا يستحيل تحقيقه في دولة محكومة بالوضع العالمي وفي عالم مليء بالمتغيرات. فإيران على سبيل المثال، رغم محاولاتها الجادة لتطبيق الشريعة، وجدت نفسها خلال نهاية عقد الثمانينيات تنتهج نفس السياسات الليبرالية التي سبق إليها الغرب الكافر، كما أن حاجة الرأسمال إلى يد عاملة رخيصة يحول دون تقييد النساء في البيوت، فيبقى الحزب الحاكم أسير حاجات رأس المال، فعجز الإسلاميون عن تحقيق المجتمع اليوتوبيا الذي وعدوا به، ولم يجدوا للتستر عن نقصهم النظري سوى شجاعة جوفاء في انتقاد أمريكا كي تبقى الثورة دائما مهددة.
إن وصول التنظيمات الإسلامية إلى السلطة لم يكن إلا نتيجة أخطاء فادحة في صفوف اليسار، فمثلا اعتبار حزب توده الإيراني الحزب الجمهوري الإسلامي حزبا برجوازيا تقدميا منوطٌ به قيادة الثورة الديمقراطية، كان خطأ استراتيجيا قاتلا أدى إلى ما كان عليه الحال بعد ذلك.
بالنسبة لحماس التي كانت بين خيارين حرجين، فتعود أسباب عجزها عن تحقيق برنامجها الوطني لفهمها الضيق وأفقها القصير المدى، فاعتبار جميع الإسرائيليين أعداء يفوت أمامها فرصة إمكانية نخر العدو من الداخل، خاصة وأن سحق دولة كإسرائيل ذات العتاد العسكري الذي يتفوق على مجموع العتاد الذي تمتلكه الدول العربية، يكون ضربا من الجنون. كما أن حماس كان عليها أن تسعى إلى كسب الشعب الفلسطيني بالعمل على إلحاقه إلى مركز صنع القررات، وبناء أجهزة قاعدية محلية وحده كفيل بإعطاء روح المقاومة نفسا أكبر.

ليس بوسع أي تنظيم إسلامي القيام بمثل هذه المهام، لذلك فهي تنتظر حزبا ثوريا ذو استراتيجية حقيقية، مستلهمة أساسا من دروس المقاومة داخل كل بلد، وتحمل على عاتقها برنامج مجتمعي يقضي على الفوارق الطبقية، التي هي أساس الحروب والمصائب، ويؤسس لبناء مجتمع العدالة الاجتماعية والسيادة الفعلية على شروط العيش.

الثلاثاء، 6 يناير 2015

سمعنا خشخشة خلف الفرن، أدركنا أنه عاد إلينا مرة أخرى ليفسد علينا راحة البال، أكان ذلك قصده حقا..
أوصدنا الباب بإحكام، أفرغنا المطبخ من كل ما قد يعرقل اصطياده، بدأت في تحريك الفرن بهزات قوية أسقطته من على مخبئه، أراد الفرار، أحس نفسه محاصرا، أصدر استغاثات أشبه بالبكاء، ارتعد جسده بالكامل، حتى كِدت أنزف الدموع شفقة، أمسكتُ زوجتي عن قتله، غادرنا المطبخ بعد إغلاقه بإحكام، ثم نزعنا إلى النقاش...
كانت الإشكالية المطروحة هي: هل جاءنا الفأر قصد إقلاق راحتنا؟ أم ابتغى تلبية حاجيته البيولوجية في الأكل؟ ولماذا لا يبحث عنها خارج نطاقنا؟
بعد أن أجمعنا على أن الإنسان غزا كافة مصادر عيش الفأر، ولم يعد له مصدر غير البيوت، حكمنا ببراءة الفأر، وقبل النطق بالحكم تماما، أردفت الزوجة أن ما ذنبنا حتى نتحمل وزر الإنسانية، ونتكلف بتوفير قوت الفأر، عكس قولها ميزان عدالتنا لغير صالح الفأر، وكان مضمون الحكم إنزال الإعدام على الجاني.

عدنا إلى المطبخ، قلبنا الفرن رأسا على عقب، نقَّبنا عن الفأر شر تنقيب، دون أن نفلح في إيجاده، لقد تمكن أخيرا من الفرار...
يوم السبت الأخير، كان لنساء منطقتي موعد مع أخصائية أطفال في ندوة عمومية، وكان مما ركزت عليه هذه الأخيرة، الحذر من إبقاء الحيوانات في متناول الأطفال، حذَّرت من اللعب بالحيوانات أو اصطياد الحشرات لما لذلك من أضرار وخيمة على سلامة الطفل.
بلغني اليوم من إحدى النساء الحاضرات في الندوة، أن الأخصائية المحاضرة لها ابن في السادسة من عمره، موهوب في اصطياد الذباب، يصطادها بمهارة متناهية، تعجبَتْ كيف لها أن تعظنا بما عجزت عنه، لم تستطع نفسها مساعدة ابنها على الإقلاع من تلك العادة، ضحكت المتحرية كثيرا من أمر المحاضرة..
لم أجد أي عيب فيما قامت به المرأة، إذ أنه من الشائع أن المرء يجد ميلا إلى الاجتهاد في نواقصه، فرويد نفسه كان يعاني اضطرابات نفسية حادة، وأصبح فيما بعد أشهر عالم نفس على الإطلاق، كما لا يخفى على علم أحد أمر المعاق "أندرو سلورانس" الذي اخترع كرسيا متحركا من الألياف الكربونية، إلى غيرهم من الأمثلة الوفيرة...

الجمعة، 2 يناير 2015

كنت أيام الجامعة دائم الجدل مع أحد "العشران"، كنت آكل ضعفه، إذ كنت أسْبقه دوما إلى التهام الجزء الأكبر، وكان يقترح، ضمانا للعدل، تقسيم الوجبات إلى نصفين قبل الشروع في الأكل، وكنت أجادله في أن ذلك ليس من العدالة في شيء، فكيف يأكل نصف الصحن حتى يمتلأ ويشبع، وآكل نفس الكمية دون أن أقترب من الامتلاء، سيكون إذ ذاك قد لبى حاجاته الغذائية زيادة عن اللزوم، دون أن أفلح أنا في بلوغها، كان يدافع عن موقفه باستماتة وأقابله بالمثل. مرَّت السنين، افترقنا، غادرت الجامعة، هجرت أيام العشران، دون أن يهجرني الإشكال، وأردت مشاركتكم إياه !

الأربعاء، 31 ديسمبر 2014




في مسقط رأسي، يَجُوب شوارعه أحد المُختلين، بلباس رثٍّ يكاد يغيب عنه اللون الأبيض لقتامته نتانة، ينتعل الأرض وأحجارها، والناظر إلى قدميه عاجز عن فرز الأظافر منها، كلها مطلية بالسواد، رائحته التي تفوق قرفا رائحة الأجْثاث، مداها يبلغ في القطر عشرين مترا يُمَركِزه شخصه، لحيته الضاربة في الطول دوما تقطر خمرا، أصبح كذلك بعد مدة قضاها في امتهان التدريس، كان أستاذ رياضيات في السلك الثانوي، وأمثاله في مصيبته كُثُر...
يوم السبت الماضي، زرت أحد أصدقائي العاملين في نفس الميدان، زرته بمدرسة ابتدائية، وهناك ألفيت شخصا شلت يداه واعْوَجَّ ثغره، بالكاد يحافظ على توازنه، أخبرني صديقي أنه كان أستاذا، واعتبارا لما آلت إليه ظروفه الصحية، أوكِلت إليه مهام إدارية حفاظا على مصدر عيشه...
وتظل مهنة التدريس في بلادنا، أتعس مهنة...

الجمعة، 26 ديسمبر 2014

حملق طويلا في وجهه على المرآة، تفحص تجاعيد وجهه المُشَكَّلَة حديثا، ثم صَوَّبَ نظراته نحو جنبات رأسِه، أعلى أذنيه بقليل،  أصابه الذهول من الشيب المنبثق كثيفا، أدرك بمرارة إقباله على الذبول دون أن يلقى له جَبْرا...
لقد تدهورت حالته النفسية قبل هذا الحدث بكثير، فبدأت سلوكاته تأخذ طابعا متَوتِّرا، وبدأت العصبية تفعل فعلتها في الرجل، والزمن يأخذ في التهامه على مهل.
لكن ما سبب كل تلك العصبية؟ أيكون الرهبة من الفناء؟ إنه يعتقد ذلك، لكن ربما يكون غير ذلك تماما، فسلوكياته طالت الأبناء والمعارف على حد سواء، لم يعد ينفق مليما على أسرته الصغيرة، كما بدأ ينمي بقوة تمييزا ما بين الأبناء، فبدأ يعَلي من قيمة الذكر، ويحط من بناته أشد حِطَّة، تنامَى هذا الشعور مُذ تزوجت بنته الكبرى، أحس كل ما أنفق يُنتزع منه على حين غرة، تَحَمَّلَها في صغرها ووسَخها، ونالها مَن كانت نصيبه دون أن يجهد في ذلك، وكانت خلاصته في ذلك أن ما فائدة البنات إن كان يستفيد من تمارهن الغرباء.
وكان من غريب الصدف أن بنتا أخرى ختمت عنقوده، كانت تسلب منه أحلى لحظات حياته الزوجية، فأخذت الغيرة تنخر قلبه المنكوس، وتذكي حقده الدفين...

أشياء وأشياء أخرى قد تلعب بشكل حاسم في تحديد مكمن الخلل، المهم، قرر أن يدلف إلى الدكتور النفسي، وسأوافيكم بمخاض الجلسات عما قريب !