الأربعاء، 31 ديسمبر 2014




في مسقط رأسي، يَجُوب شوارعه أحد المُختلين، بلباس رثٍّ يكاد يغيب عنه اللون الأبيض لقتامته نتانة، ينتعل الأرض وأحجارها، والناظر إلى قدميه عاجز عن فرز الأظافر منها، كلها مطلية بالسواد، رائحته التي تفوق قرفا رائحة الأجْثاث، مداها يبلغ في القطر عشرين مترا يُمَركِزه شخصه، لحيته الضاربة في الطول دوما تقطر خمرا، أصبح كذلك بعد مدة قضاها في امتهان التدريس، كان أستاذ رياضيات في السلك الثانوي، وأمثاله في مصيبته كُثُر...
يوم السبت الماضي، زرت أحد أصدقائي العاملين في نفس الميدان، زرته بمدرسة ابتدائية، وهناك ألفيت شخصا شلت يداه واعْوَجَّ ثغره، بالكاد يحافظ على توازنه، أخبرني صديقي أنه كان أستاذا، واعتبارا لما آلت إليه ظروفه الصحية، أوكِلت إليه مهام إدارية حفاظا على مصدر عيشه...
وتظل مهنة التدريس في بلادنا، أتعس مهنة...

الجمعة، 26 ديسمبر 2014

حملق طويلا في وجهه على المرآة، تفحص تجاعيد وجهه المُشَكَّلَة حديثا، ثم صَوَّبَ نظراته نحو جنبات رأسِه، أعلى أذنيه بقليل،  أصابه الذهول من الشيب المنبثق كثيفا، أدرك بمرارة إقباله على الذبول دون أن يلقى له جَبْرا...
لقد تدهورت حالته النفسية قبل هذا الحدث بكثير، فبدأت سلوكاته تأخذ طابعا متَوتِّرا، وبدأت العصبية تفعل فعلتها في الرجل، والزمن يأخذ في التهامه على مهل.
لكن ما سبب كل تلك العصبية؟ أيكون الرهبة من الفناء؟ إنه يعتقد ذلك، لكن ربما يكون غير ذلك تماما، فسلوكياته طالت الأبناء والمعارف على حد سواء، لم يعد ينفق مليما على أسرته الصغيرة، كما بدأ ينمي بقوة تمييزا ما بين الأبناء، فبدأ يعَلي من قيمة الذكر، ويحط من بناته أشد حِطَّة، تنامَى هذا الشعور مُذ تزوجت بنته الكبرى، أحس كل ما أنفق يُنتزع منه على حين غرة، تَحَمَّلَها في صغرها ووسَخها، ونالها مَن كانت نصيبه دون أن يجهد في ذلك، وكانت خلاصته في ذلك أن ما فائدة البنات إن كان يستفيد من تمارهن الغرباء.
وكان من غريب الصدف أن بنتا أخرى ختمت عنقوده، كانت تسلب منه أحلى لحظات حياته الزوجية، فأخذت الغيرة تنخر قلبه المنكوس، وتذكي حقده الدفين...

أشياء وأشياء أخرى قد تلعب بشكل حاسم في تحديد مكمن الخلل، المهم، قرر أن يدلف إلى الدكتور النفسي، وسأوافيكم بمخاض الجلسات عما قريب !

الثلاثاء، 23 ديسمبر 2014

اِنتزَعتُ ابتسَامة حَريرية مِن ثغْرِها بِشُقِّ الأنفُس، تَحَايلْت من أجلها طويلا حتى نِلت مُرادي أخيرا، جمالها ساحر، وشَعْرُها الذهبي الناعم يَسُرُّ النَّاظرين، مُفعمَة بالنشاط والحيوية، شُحُّ صوتها يَزيدُه عذوبة، إلا أنها لا تقتَاتُ إلا على المُعَلَّبات، لا تَهْوَى اصْطيَاد الفئْرَان، ما يُعْلِي مِن تَكْلُفتها...

إنجازٌ عظيمٌ أنْ تَنْتَزع ابتسامةً مِن قطة، وقد أخْطأ مَن قال: الابتسامة مِيزَةُ الإنسان، لا، فلربما تَكُون قِطَّا دُون أن تدري...

ذهبت أمس زائرا أحد أصدقائي الذي يعمل حارسا بإحدى التجزئات الحديثة، التقيته بعيدا عن مأواه، ثم رافقته إلى بائع دجاج، كان ينوي أخذ بعض بقايا الذبح لكلبته التي أنجبت سبعا، اعتذر له البائع وطلب منه العودة بعد حِين، ذهبنا إلى مأواه البسيط، كان خجولا من كلبته التي عاد إليها بِخفي حنين، ما إن لمَحَته حتى بدأت في الركض إليه والحَوْم حوله عَلَّه وعَسَاه يرميها بقطعة لحم، لكن دون جدوى...
قضى حاجته ساعة في المأوى، ثم عدنا إلى بائع الدجاج دون أن تَبرحَنا الكلبة لحظة، اقتفَت أثرَنَا حتى بلغنا مَقصدَنا، وفي طريقنا إليه، تعرضت كلبتنا لصُنوف الابتزاز الجِنسي من بني جنسها طبعا، وكانت في كل مرة تدنوا إلينا طمعا في الاحتماء.
أخذنا ما أَلِف بائع الدجاج تحضيره لصديقي، ثم عُدنا أدْراجنا إلى المأوى، كان الاطمئنان بَاديا في سلوك الكلبة حين العودة... وما إن يضع صديقي وجبة الكلاب أرضا، ويبدأ بالصفير على نحوٍ مميز، حتى يتسابق الجِراءُ إليه، فيفترسوا الطعام افتراسا، دون أن تقترب الكلبة منهم، دون أن تزعجهم، فتظل مُحافظة على مسافة معينة منهم، وتراقبهم دون كلل حتى يفْرَغُوا من الأكل وينصرفوا إلى اللعِب...

راقني كثيرا ذلك المَنظر، الكلبة كانت جائعة بالتأكيد، لكنها آثرَتْ مصلحة أبنائها على نفسها، إنها مُناضلةٌ بالفعل...

الاثنين، 22 ديسمبر 2014



أحكم ربطة عنقه الحمراء، وضع على الجانب الأيمن لمعطفه عطرا أهداه له أبوه الخبير في جودة العطور، عطر ليس ككل العطور، استلمه يوم عيد ميلاده الأخير... اتجه نحو مائدة الإفطار، وجد زوجته بانتظاره، فطرا سويا، عاد إلى غرفة نومه ليأخذ نظارته الشمسية، وجد قربها رسالة دأبت أمه على كتابتها كل صبيحة اثنين منذ أن أدرك القراءة، تدعو له فيها بالتوفيق والنجاح...
غادر البيت مٌقِلا سيارته صوب مكتبه الواقع بشقة في منتهى الرُّقِي، وجد في انتظاره أحد زبنائه المُتْرفين، وهو أحد الفاعلين الجمعويين المحليين، ماسكا بيده صبيا يبدو أن سنه لا يتجاوز الثالثة عشر، ملابسه رثة متسخة، وجهه مليء بالخدوش، نظراته قاسية ثاقبة.
قال الزبون: لقد جئتك به قصد العلاج، إنه يعاني أزمات نفسية حادة، تلقفته من الشارع، ستتكلف الجمعية بمصاريف العلاج.
وافق الدكتور النفسي رغم بعض التحفظ والقرف، أقعده في غير مجلس الزبناء، على أحد الكراسي الخشبية، لم يألف استقبال أشخاص من تلك الطينة، ولا ألف الإنصات إليهم.
بدأ الدكتور في استنطاقه بأنَفَة متعاظمة، والصبي يجيب بكلمات، بأجوبة قصيرة إن استوجب الأمر ذلك، وباستهزاء ألمعي في بعض المواقف، لم تُرْهبه فَخامة المكان، ولم يستصغره عطر الدكتور ولا هندامه الأنيق.
بدأ الدكتور يحس بالارتباك، استشعر ذكاء الصبي وفطنته، أراد أن ينهي المقابلة سريعا وبنصائح موجَزة:
- يا بني، أول ما عليك فعله هو تنظيف هيئتك، اعتني بهندامك، ستحس بالراحة، حاول أن تلهي نفسك بالقراءة والصلاة حتى تتخلص من بِلية "السيليسيون"، لا تأكل غير الطازج، فطبيعة الغذاء لها تأثير بليغ على المستوى النفسي / العقلي للفرد، حاول أن تنظم وقتك، حاول....
تَكلم كثيرا حتى أحس نفسه لم ينطق ذات معنى، استبصر ذلك من عيني الصبي المُربكة، سكت عن الكلام دون إدراك، ليردف الصبي قولا:
- وفِّر كلماتك لأشخاص من طينتك، لم أعرف أبا ولا أما تعتني بملابسي منذ فطامي، ليس لي مسكن يأويني لأشعر بالراحة، أحيى اعتباطا دون تخطيط، لست أختار طعامي، بل أصيبه توسلا، أو آخذه اختلاسا، خذ مكاني ساعة تخجل من كلماتك دهرا، مفاهيمك لا أستطيع إدراكها فهما، فكيف أدركها عملا، وفِّر كلامك، وفره...
قالها بغضب ومُرُوءةِ شَهْم، خرج دون استئذان، مُخَلِّفا طعنة حادة في نخوة الطبيب، لم يحاول ثنْيَه عن الخُروج، استحيى لكل كلمة تفَوَّهَها، غرِق للحظةٍ شرودا، قبل أن تأذن السكرتيرة بإدخال زبون آخر، أراد النظر إلى الساعة، لم يجد هاتفه المحمول: سحقا، أكيد أخذه الصبي...

بحُكم طبيعتي المِهنية، أقابِل كل يوم أشكالا مختلفة من النساء والرجال، والغريب في ذلك، أن النساء دائما تبدو أكبر سنا من الرجال بمحن كثيرة، رُغم أنهن في الغالب ربَّات بيت، وأظن ذاك هو السبب، فالرجل بمبرر العمل دائم الترحال والاكتشاف، وينسج علاقات متجددة كل يوم، مِمَّا يساهم على نحو حاسم في تكوين شخصيته، كما يسمح له باتزان نفسي نسبي. عكس المرأة، فتجد محيطها جِدَّ محدود، علاقاتها محدودة، وإن أضاعَت إحدى حَلقاتها أصابها العُصَاب، قلما تغادر الحي، ما ينعكس سلبا على نفسيتها، فيُصاب عَقلها بالجمود والطفولية، وتغدو متقلبة المزاج، وتصبح حساسيتها مفرطة تجاه صغائر الأمور، وبذلك تكون أكثر عرضة للتهالك وانتهاء الصلاحية في الأمد القريب...


رنَّ هاتفه على غير العادة، على غير الرَّنة التي ألِفَها عليه، ربما أحدهم عبث بإعدادات الهاتف، لا يهم... لكن، مَنِ السائل؟
جاءه اتصال من إحدى الشركات العظمى بالمنطقة، طلبت قدومه إلى مكتب الإدارة قصد استلام وظيفة، لا عفوا، طلبت منه أن يُعِدَّ نفسه، لأنهم قرروا أن يرسلوا إليه سيارة خاصة تقله إلى مركز الشَّركة.
بعد أن وافق دون تردد، تحير في داخله السؤال لحظة: من أين لهم برقم هاتفي؟ من أين لهم بعنواني؟ ربما أحد المتشفين يُمازحني؟ لا يَهُم...
بعد لحظات، سمع صوت منبه السيارة، أطل من النافذة، لمح سيارة فخمة يُلوِّحُ منها رجل يبدو على محياه البَذخ، نزل إليه مهرولا، قال له سائق السيارة الفخمة: الكبير في انتظارك !
انطلقا كالسهم صوب المركز، استقبله المدير بحفاوة بليغة، عرض عليه وظيفة شبه حرة، أن يشتغل بمعدل ثلاثة أيام في الأسبوع، والمقابل الشهري 30 ألف درهم، وسيارة من نوع 4×4، والعديد من الامتيازات.
قَبِل العرض على الفور، استلم مفاتيح السيارة، غادر الشركة إلى السيارة الفخمة وكله بهجة وسرور، وقَبْل أن يَمَسَّها، قَبْل أن يضع المفاتيح في موْضِعها، أفاق على صراخ أمه وهي تنزع عنه البطانية: "أفِيقْ أخَانْزْ الرْجْلِينْ أُوخْرْجْ قْلبْ لِيكْ عْلَى شِي خْدْمَة بْحَال ڭرَانْكْ"



قضَى ليَالِيه لهوا وسَهراً، ابتُلِيَ بِالنبيذ والمُومِس، كان يُنفق بسخاء من أجل اللحظة واللذة، حتى إذا جاوز الأربعين بالحَوْلين، قرر إكمال النصف الآخر من الدِّينِ، أرادها صغيرة فاتنة عفيفة، لم يمْسسها قَبْله إنس ولا جان، وكذلك أصابها...
تزوج فتاة لم تُتِمِّ السابعة عشر من عمرها، كان يبتغي من ذلك ارتشاف أنوثتها على مَهلٍ، صِغَرُها يضمن مدة صلاحية أطول، كانت مشاكسة ولِسِنِّها ما يُبَرِّر تلك المشاكسة، قضت أيامها الأولى كأي زوجة، رهينةَ المطبخ والسرير..
بعد سنتين من الزواج، بدأ يتراجع النشاط الجنسي للزوج، وتتصاعد رغبتها فيه، فارق السن خلق تناقضا مزاجيا أنهَك الاثنين، فالمرأة بدأت تنفتح عيناها خارج جدران البيت وتبحث عن مغيث، والزوج يحاول الفرار من تَعََطشها بالتذرع بالعمل، خَلجَته الوساوس تُجاهها وارتبك من تقلب مزاجها، لكن... لم تُسْعفه قُدراته حَلا.
في المقابل، كانت تتلهف سفره لتُدبر المكيدة، رغم هوسها بالفضيحة، رغم حضرة الأبناء، رغم صلاتها ونسكها، إلا أن الطوفان الذي يُغْدِقها رغبة وإحساسا كان يُهين عليها كل شيء، كيف لها أن تحرم من لذة لم تنْعم بها قدر زوجها، قدر كل الرجال؟ كيف ارتضت بذاك الكهل زوجا؟ كانت صغيرة ! لم تعرف للجنس معنى غير الأمل، هل توسمت فيه خيرا ! ربما ! لكنها أكيد لم تُكَيِّل للعجز بمكيال.
عاشا حالة نفور مشاعري، وتقَرُّبٍ نفاقي تبديه الزوجة مُبالغة، يحاول الزوج جاهدا التساهل مع بعض الهفوات لعصبيتها الشاذة...
وطأة الزمن على أجسادهما عُتُلا، يجمع غيظه بالبيت ويَنْفُرُه خارجا، كذلك تَسْعَد عند الخروج، تَتَربَّصُ الفرصةَ، عَلَّ الحَظَّ يبتسم، ولا تزال على تلك الحالة...
ولكم في ذلك عبرة لعلكم...



الناس مولعة بالنفاق، كواليسها تكسوها الفضلات، أجثاث تمشي الخُيَلاء، تدعي الحكمة وتنطقها، ذاك يجوز وذاك لا يجوز، يجوز إن اُضْمِر ويُبغَض في العلن، ثقافة تُذكي اختلاق الأوجه والأقنعة، لكل قناع مَحَله وسياقه، تخشى الحقيقة عند المواجهة، وإن صُدمت بها عفوا ارْتُكِبت جرائم الشرف...
يا ناس، هذه صرخة استجداء، حَددوا قصدكم وأدركوا السبيل إليه، لا تُرعِبكم الحقيقة واستوعبوها تُطَوِّعوها لذواتكم...
الجنس طاعون يُربك حساباتِ المحافظين، تراهم إن أوصدوا الباب نعموا به خلسة، وإن ذُكر في مجالسهم انفضُّوا آثمين، وإن أقرنته بالنَّسَبِ فويل لك، وإن نصحت به ابتغيت شِقاقا...
علم النفس يؤصل ل"جميع" المشاكل النفسية على قاعدة جنسية أساسا...




كان بالنسبة إليها أكثر من حبيب، قَضَتْ وإياه أحلى لحظات عمرها، عوضها مآسي ماض مرير، قِوامُه الشِّقاق الأسري والحرمان العاطفي، لكن... ومنذ أولى لقاءاتهما، بدأت تتبدَّى لها الأشياء نعيما، فأخذت في لقاءه انتظاما، كان مُولعا بها حقيقة، تقدم لخطبتها يوما، واتفقا على تعجيل عقد القران لنفاذ الصبر من الانتظار...
في إحدى ليالي تجوالهما بمكان ليس ببعيد عن وسط المدينة، أخذا يتخبطان الشوارع حديثا في غياب القصْد، حتى فوجئا بثلاث ٍغِلاظٍ شِدادٍ، استوقفوهما على حين غرة، شدَّهُ أحدهما إليه بقوة، وسلَّ من مكان ما سكينا رفيعا، وضعه بخفة متناهية على رقبة الخطيب، آمرا إياه بالجمود. في نفس الوقت، قام الآخران بإحكام الفتاة، وأخذ أحدهما في نزع ما على جسدها من ملابس، أخذت في الصراخ قدر الإمكان، حتى أخرستها طعنة على خدها الأيمن أوقعتها في غيبوبة...
لم تدرك نفسُها تتمة الحَدث، حتى أوجدت نفسها طريحة سرير المستشفى يحوم حولها الأهل وبعض الجيران، أحست تهالك جسدها، توجعت فيما توجعته عميقا بين فخديها، آنذاك فقط استطاعت إعادة نسج خيوط القصة، واكتملت الصورة في ذهنها على نحو درامي، ثلاث حمير تناوبوا جسدها الهزيل، وماذا كان مصير الخطيب؟
طبعا لم يكن حاله أشد سوءا، كان حظه أن كان ذكرا، ضُمِّدت جروحه بكوب ماء، لكن... جروحها هي، ما كانت تكفيها ضمادات ولا عقاقير الطبيب، ما كانت تكفيها شفقة الحاضرين، كانت في حاجة إلى شيء أبلغ من هذا كله..
قصتها على كل لسان، وهو ابن الجيران، كيف له أن يرتضيها خطيبة بعد الذي حصل، نرجسيته لن تسمح أن يحكم عليه القدر بالمرتبة الرابعة من الطابور، أكيد لن يقبل، يجب أن يحفظ ماء وجهه ويختار الصواب كما يرتئيه، وكذلك فعل...
جمع أغراضه، وغاب عن المدينة، دون أن يفسخ الخطوبة، ودونما اعتذار...
بينما الفتاة التي وقعت ضحية الاغتصاب الثلاثي، ضحية لا رحمة المجتمع، ضحية لا رحمة الحبيب... حقيقة لم أجد لها خلاصاً يَخْتِم القصة، ربما تنتحر، ربما تُجَن، ربما تَعْهُر، لكن، أن تعود لسابق عهدها، أكيد لا !!

لأسباب أو لأخرى، تمَََََََََََََََََََََََََََََّ تَحرير تجارة بيع "جهاز كشف الكذب"، أسْرع سعيد إلى اقتنائه، كان سَببَ طلاقِه من شريكة حياته التي طالما اعتقدَ الصِّدقَ والوفاءَ خِصَالها، لم يكن صادقا نفسُه، إلا أن زوجته العاجزة تماما عن تشغيل الجهاز، أو لمبادرته هو أولا إلى كشف صدقها من عدمه، كان سببا في تبرئته، قام الجهاز أيضا بكشف نفاق أغلب مقربيه، حتى صَدَّهم عنه واختار الانعزال. وما إن ذاع صيت الجهاز ومُخلفاته، وارتفعت مبيعاته، حتى كَفَّ الكُل عن الكلام مَخافة الافتضاح، فعَمَّ الصمت الدنيا جميعا....

سألوني،
- هل قُتِل الزايدي وباها، أم ماتا كما أذيع..
- هل "إيبولا" و "داعش" حقيقة أم فزَّاعة؟
- هل طَلبُ تأجيل تنظيم كأس إفريقيا سببه "الإيبولا" أم هناك سبب آخر !
- هل سبب عدول الملك عن زيارة الصين هو المرض حقا؟
- هل أمريكا والصين وروسيا حلفاء يتظاهرون بالعداء؟
- من يحكم العالم؟ أمريكا، أم قوى خفية؟......
أجيب،

إنا إنسان فقير الحال، أستيقظ على الساعة السادسة والنصف، أفطر وأرتدي ملابسي بسرعة كي ألحق العمل على الساعة 7:30، أشتغل بشكل أشبه بالاستمرار إلى الساعة التاسعة ليلا، مُستلَب حَدَّ الاعتقال، قلما أشاهد التلفاز، معلوماتي وتفكيري بسيطان جدا، وقاصران عن استجلاء كل تلك الخفايا، محيطي أضيق مما تتخيلون، جيراني لا يعرفون أوباما ولا الزايدي ولا الزاكي، وليس لديهم وقت لمعرفتهم، رغم بطالتهم، كل تفكيرهم مُرَكز صوب قُوت يُحَصلونه أو جِنس يُصِيبونَه أو أغَانٍ ينصتون إليها... أنا لا أسافر قط، حدودي إقليمي، وإملاقي كدري، فبربكم أنَّا لصغير أن يدرك دسائس الكبار !

كان الوقت صباحا، والمكان: إحدى منشآت بريد المغرب، اسْتُدعِيَ "المعطي" إلى مكتب المدير، وقبل أن يطرُق باب الإدارة، أعاد فيما يقارب الدقيقة سيناريو الأمس، عساه يستشف الغرض من الاستدعاء، أعجزته مشاغل أخرى عن ذلك، استأذن ثم دخل...
كان الخبر الذي تلقاه وقتها صادما أو هكذا بدا على مُحياه، لقد أحيل على المعاش، نزفت عيناه مآسي عمر أدركه الوهن، وفي طريق عودته إلى البيت، مَوْقَع مقعده بين شيوخ الحي، محترفي"الجوكير" و"الشطرنج"، عساها تَشغُل وقته الشاغر، إلى حينٍ يأذَن فيه القدر بالفناء..
"دجون"، موظف فرنسي بإحدى شركات التوزيع، عَدَّ الأيام والليالي دونما كلل، ترقبا لميعاد الإحالة على التقاعد...
قبل أن يزُفَّ عليه المدير يومها خبر الإحالة، كان "دجون" قد استبق موعد اشتغال الإدارة بربع ساعة، وكله نشاط وحيوية...

لم ينتظر الميعاد أمَلاً في الخمول، بل سبق وأن أعَدَّ استراتيجية عمل متكاملة لاستقبال العمر الذهبي كما يصطلح عليه هناك، أسَاسُها العمل التطوعي والاستكشاف والإفادة قدر المستطاع.
لم يكن يستهوي السَّمر، قلما يعود إلى بيته في وقت متأخر من الليل، يحدث ذلك عقب صلاة العشاء، حيث ينوي قيام الليل، لكن... هذه المرة، لم يحدث شيء من كل هذا، فقبل أن يتناول وجبة العشاء، رَن هاتفه واسْتُعجِل قدومه إلى بيت أحد أصدقائه...
ركب سيارته الفخمة، واتجه صوب المكان المحدد، حيث التقى أربعةٌ من أصدقائه، كلهم من الشخصيات المرموقة، التفوا حول مائدة عشاء فخمة، تُزينها أكواب خَمر مختلفةٍ ألوانه وأشكالكؤوسه، تردد بعض الشيء، إلا أن حماسة الجو أسالت لعابه.
تناول وجبة العشاء وإيَّاهم، وارتشف بضعة كؤوس، ربما كانت أول مرة، لكنها فعلت فعلتها في الرجل..

أخذوا في الحديث اعتباطا ودونما لجام، تَلقَّفت أذنا الرجل أشياء لم يسمع عنها قَط، اختلالات وفساد في منتهى الانحطاط، خاصة وأن من تولوا ذلك الفساد من طينته، معتكفي المساجد، تسمر دقيقة في مكانه، قبل أن يأخذ في الصياح ثم السب والقذف، أطبق خلفهم الباب، واتجه صوب سكة الحديد واقفا عليها، وراغبا في الفرار من واقع طالما تفاءله خيرا، وكان له ما أراد..

نشأت في كَنَف أسرة غارقة حَدَّ الجُفون في التقليد، ما إن بلغت الثامنة من عمرها حتى صُفِّدَت أغلالا، ما كانت تبرح البيت إطلاقا، عَدا رفقة أخيها الذي تكْبره بالحَولين، كما حُدَّت عَفويتها تُجَاه الأخ الأكبر، لم تَفطن دَواعي الحِصار، إلا أنها تشبعت به أصُولا مع مرور الزمن... بدأت تتوجس أخاها ريبة، بل الذكور عامة، علمت الأسباب متأخرة، إلا أن ذلك لم يثنيها عن الوقوع في الزلل، فكانت فريسة أخيها نفسه، أو بالأحرى كانوا فرائس بعض، تفجر الكبث وانْبَجست الأحاسيس تلهفا، فطفقا في الغوص في بحر اللذة دون مبالاة...

نخشى الموَاجَهة ارْتِيَاعا، فنَحتَمِي بِظِلال الرِّيَاء والخِذْلانِ، وعِنْدَ القَضَايَا الكبرى تنْجلي المسألة، الخوف مِمَّن؟ ولماذا؟
الخَوف من دُجْنة المَآل؟
ومِن الإمْكانَاتِ السَّبْيُ أو الضَّيْمُ أو حتى الهلاك...
أكيد ليس هلاكا، ولنصْطلحْهُ مَنِيَّة
والرِّيبَة مِن المَنِيَّة أصل البَلاء، لكن نَفْضُ الغبار قد يأتي دواءا...
الموت عودة إلى الأصل، فلماذا نَخشى الأصل؟
الأحْرى عودة إلى ما قبل الميلاد... عودة لن يَعقبَها ميلاد... انْصِرام اللذة والألم...
أما وجودنا... فليس أكثر من لحظة لا متناهية الصِّغر اعتبارا للقياس الكوني..
أبدا ما كُنا نعاني قبل الوَضْعِ... ما كنا نعطش أو نجوع... بل ما كُنا !!
حَسبُك تَبَصرا لِذات المعنى، حتى يكف الضَّجر عَن الوجود، ويَزول التَّوجس من السَّبْيِ والضَّيْمِ... ويُحْجِم الناس عن الرِّياء والخِذلان...

فيُزهق الجور والطغيان بفِعل المُواجهة، ثُم تُنصب أعمدةُ العِزة.

ذهب وابنه أيوب وكلبه "ماكس" إلى أحد أصدقائه النائيين عن المركز ببضع كيلومترات، جلسوا إليه آخِذين في الحديث عن مُخَلفات الفيضانات الآخيرة، بينما أيوبٌ المُشاكِس لم يهْدأ البَتة، أخَذه الفُضُول إلى تقليب كل شيء، فيَعمد إلى تمحِيص الأشياء الموضُوعة "ديكورا"، وتارة يركب الوسَادة حِصاناً، ثم يرمي بجهاز التحكم لَهْواً... ما أغاض حقيقة المضيف "يوسف"، حَدَّ عَدَم التَّحَمُّلِ زِيادة، أعْلنَ عَدمَ رضاهُ فِي وَجْه صَديقه، ثم نادَى عَلى ابنِه الصَّغير - ليلقن صديقه أصول التربية- آمِرا إياه أن يَرْتكِن، فَارتَكَنَ دون أن يُجادل أو حتى أن يَتَريَّث، صَرخ يُوسُف بِفَيْضِ ثِقَة: "كَذلك تَكُون التَّربِية، اِحْترامٌ وطاعَة..."
آنَذاك فقَط أعْقَب المُسْتضَاف حَسن، فإذا به يُنادي بدوره على "ماكس" المُرتَقِب خارجاً، ثُم يَأمُره بالاسْتلقَاء والارتِكَان... امْتثل الكلْب... ثم صَرخ حسن، "فذاك ترويضٌ... أمَّا التربية فأتْركك والزَّمَن يُعلِّمك" خَرج الوَفْد مُطْبقين خلفهم الباب...

غداة ذاك المساء، لم يجد أطفالُ يوسفٌ الأربعةُ أنفُسَهم غيْرَ جُثتٍ هامِدة، حيث قرر يُوسُف اسْتبدال الكِلاب بالأبناء..

لـــم تــَعُــد تتــذوَّق النــوم إلا لِمَـــامـــا، فــأَجَــل دُخـلـتِــهـــا قــدْ غَـــدَا قـَـــاب قــوسـيـــن، سَـعـــادَتُــهــا لـم تَـَسَـــع صَــدرهــا الـصَّـغِـيـــر، ارْتـَـقـبــت اللــحْـظَــة مُـنْـــذ بَــعِـيـــد... مَـا إن أقـبْــل الـخـيْــر عَـلـيـهـــا حـتـــى عَــــمَّ الجَــمـيـــع، فــأخــوهـــا الــذي كانـــت مُصِيبـتــه العــطَـالــة سِنـيـنــــــا قَــد أصــابـتــه الـوظـيـفــــة أخِـيـــرا بَـدل أن يُـصِـيـبـهـــا، بــل قـد دَنَـى مِـيـقَــات الأجْــــرة الـذي طـالـمــا تَـلَــهَّفَـــه، كَــذلــك أمْـطــرت الـسَّـمَــاء بِـسَـخـــاء أثـلـَـــج صُـــدور الـمُـزارعـيـن، فَبَـــدَؤوا يُنفِقــــون عَلـــــى الحُبــــوب دونما احْتسَــــاب، حَـــرثـــوا مَواقـــع لــــم يمْسَسْهـــا طـــرف المِحْـــراث عقــــودا... فــي نفـــس السِّيــــاق الزَّمنـــي، قَدِم وَالــــي مدينتهــــا زافَّــــا بُشــــرى افتِتَـــاح مَشاريـــــع رُصِــــدت لَهــــا ميزانيــــات باذِخــــة... كُـــلُّ شـــيء كـــان يَعِــــدُ بالجَميــــل...

قَبـــل أن تَنفَتِـــح عَيناهــــا بالكَامِــــلِ، وقَبــــل أن يُغَـــادرَ الأخُ فُطـــورَهُ إلـــى العَمَــــل، وقبْــــل أن تَهْــــوي فــــؤوس المـزارعيــــن عَلـــى الأرْض المرتويــــة مَــــاءً، وقبْـــل أن يُنْظـــر فــي أمْــر المشَاريـــع... أَوْمَضَـــت السمـــاء أشِعَّـــة خاطِفَـــة للأبصَـــارِ، وَسُمِـــع دَوِي انْفجـــار ضَخـــم فـــي المَدينـــة التِـــي طالمـــا جاورت مدينـــة الفتـــاة، رغـــم أنهـــا كانـــت تبْعُـــدها عَشـــرات الأميـــال، كانــــت تجـــاورها ! لكِنهــــا الآن دُمِّـــرَت عــــن بُكْــــرة أبيهــــا وسُــوِّيَـــت أرضـــا، كَـــان الصَّـــوْت الفَاجـــع إعْـــلانَ بِِدَايـــة الحـــرب..

قبل الأمس، جالست صيدليا صديقا لي، وأخبرني أنه لم يتناول دواء قط منذ أواخر الثمانينيات، فسألته عن السبب، وأخبرني أنه كلما استطاعت مناعة الإنسان التغلب لوحدها على المرض، دون تدخل مواد كيماوية، فإن المرض لن يتردد على الجسم مرة أخرى، وكم ذهلت حين أخبرني أنه نسي بالمرة المرض، أردفت السؤال عن سبب بيعه للأدوية، رد ببرودة: أتَرَزق..
أمس، صادفت صديقا آخر لي، يعمل في إحدى شركات توزيع الأدوية، ومهتم جدا بالموضوع، مدني بإحصائيات دقيقة تفيد بأن أكثر من 75 بالمئة من الأدوية المتداولة بالمغرب، تم حظرها بأوربا وأمريكا، نتيجة لتسببها المباشر في قتل عشرات الآلاف من متناوليها، والبعض الآخر ينفرد المغرب بالتجارة فيه رغم صدور إعلان مضارها لأكثر من عشرين سنة...

اليوم، قررت مقاطعة الصيدليات وبضائعها، بعد أن اقتنعت أن الدواء مخدر فتاك، لطغيان هاجس الربح في إنتاجه، فهو لا يقضي على المرض بتاتا، بل يجعل الجسم أكثر حساسية للمرض، وإن بدا تحسن مؤقت في صحة المريض... الشركات المهووسة بالربح، همها تردد المريض على الدواء، ولن يفيدها شفاؤه في شيء...
إلـتـحــق بـالجامعـــة، وأول أيــامـــــه فـــيـهـــا اعتـقــل، لـم يـمـشـــي فـــــي مـظــــاهــرة ولا أراد، أخـطـأه الـقـدر أو تــعــمـــده، حُـكِــم عـلـيـــه بـبـضـعــة أشـهــر غـيــر نـافــذة... أخـــد غـطـاءَه الصــوفــــي ووســـادة أعــاره إيــاهـــا أحـــد أصـدقـائـــه الخِـــرِّجِـــيـن، رحـل عـن الـمـديـنـــة الجـامـعـيـــة دون أن تــطــأ قـــدمـــه أرض الـــكـلـيـــة، ودون أن يـــسـأل عـــن وثــائـــقـــه الــتــــي ســـبــــق لأخــيـــه الأكـــــبـــر أن دفـــعــهـــا قـصـــد تـســجـيــلـــه...

طــال بــحــثــه عـــن عـمــلٍ حــتـــى أصــابـــه، اشـتـغـــل بـشـــركـــة صـبـاغـــة قــرابـــة 6 أشــهـــر دون أن يـتـــقـــاضــــى أجـــرا، كـانـــت الـشـــركـــة عـلـــى عـتـبـــة الإفـــلاس، اعـتـصـــم رفــاقـــه فــي الـعـمـــل وغــادرهـــم تــحاشـيـــا لـلاعـتـقـــال، تـعــاطـــى الـمـخـــدرات عَــلَّـــها تـخـفـــف عـنـــه بـعـــض الـمـحــنــة، طـالـتـــه أيــادي الـغــــدر بـغـثـــة وهـــو يَـلـــف إحـــدى لــفــائـــف الـحـــشـيــش بِـرُكــن بـإحـــدى الأزقـــة، انــهــالـــوا عـلـيــه ركــلا وشـتـمـــا، قــضـــى ثــلاث لـيـــال بـالـمـخـفــر حـتــى أُنْـهِـكــت عـظـامـــه بـــردا، خـــرج مــنــه ســاخـطــا يـائــســا... قــصــد قــوارب الـمــوت بـعــد أن آنــس خـــيــرا خــلــف الـبــحــار، كُـشِـــف وقِــيــد إلــى الـمـخـفــر مــرة أخــرى، مـسـحـــوا بــكــرامــتــه أرضــا ثــم أطـلـقــوا ســراحــه، أخــذ قـنـيـنــة بــنــزيــن ثــم ســكــبــهــا عـلــى نـفـسـه، وقـبــل أن يُـوقِــد فــي نــفـســه الـنــار، أحــس ضـربــة قـويــة خـلــف رأســه فـوقــع مـغـمــى عــلـيــه، فــإذا بــه يُـنـقــل قـســرا إلــى مـسـتـشـفـــى الأمــراض الـعـقـلـيـــة..
انفصلت عنه بسبب عقمها... ربما لم يكن ذاك سببا كافيا، لكنه أكيدٌ ارتاح لقراره... غادرته حازمة مآسيها نحو بيت أبيها علها تجد ما افتقدته من الرحمة والدفء، لكنها فوجئت بالنقمة، لم يشفق لحالها أحد، غدت مثار لؤم وشؤم بالبيت، حتى أخوها الذي لا يكبرها إلا بالعام، والذي طالما شاركته هفوات أيام الصبا، لم يغفر لها ذنبا ما اختارته، حزمت نكدها مرة أخرى موقِنَة أنْ لا مُعِيل إلا ساعديها... اكترت غرفة بمال خَاتَم زواجِهما، وشرعت تبحث عن عمل، وهي التي غادرت المدرسة على عتبتها... اشتغلت بمقهى، كان رهانا عظيما قائما أمامها أن توازي راتبها بمصروفها الشهري وأجرة الكراء وفاتورة الماء والكهرباء ثم سداد أثمنة الأدوية التي تناسلت من حولها، خسرت الرهان منذ الشهر الأول، كانت خسارة ذريعة أعقبها تحَوُّلُها إلى وجبة دسِمة تثير لُعاب مشغلها، راودها عن نفسها وأصاب مَبْغاه، لم تكن في موقع يُخَول لها الترفع... بل وجدته عملا ليليا إضافيا يغطي ما عجز عنه عمل النهار، تكاثر عليها الزبناء إلى أن شاع أمرها وبلغ أخاها، استعجل القدوم إليها ثورا هائجا، فَجَّر نباحه صاخبا على وجهها، ما أسكته غير صرختها الأخيرة بعد أن غرق جسدها في الدماء...

أكيد سُجِن الأخ، لكنه تُوج بطلا في أذهان أقاربه ومقربيه... فلولاه لتلطخ الشرف بدلا من الأخت، أما هي... فليحتضنها الجحيم إن أرادت الدفء..
صديقي ابراهيم، إنسان في منتهى الطيبوبة، تعرفت عليه ما يزيد عن الثلاث سنوات، يحظى بتقدير كل معارفه، يقضي حاجة السائل رغم عوزه، ولن تجد عنده درهم غيره، دائم الابتسامة، اشتغل سائقا براتب ضعيف، لم يعد يهمه من هذه الدنيا غير راحة البال، فقد قارب الستين وأبلغ البنين...
أمس، حكمت عليه المحكمة بـ 5 سنوات نافذة وغرامة 5000 درهم، بتهمة القتل غير العمد وجنحة الفرار...
لقد صدمت سيارته صاحب دراجة نارية يحمل ابنه خلفه، مات الابن وشلت قدما الأب، ونتيجة للصدمة التي لحقت بالسائق....لاذ بالفرار.
لم يكن خطأ صديقي ابراهيم، سرعة سيارته لم تتجاوز الخمسين، لكن سائق الدراجة النارية كان شديد التهور، أراد المناورة في غير محلها، وكان ما كان...
الإشكالية هنا تكمن في ما جدوى المؤسسة السجنية في حالة ابراهيم، إذا اعتبرناها مؤسسة اصلاح، فصديقي ليس بمجرم ولا نشال ولا أراد إسقاط النظام... هذا إن سلمنا بأن السجن يقوم بالدور المنوط به، لكن واقع الحال يوشي بغير ذلك.

ذاك حكم جائر وشديد الإجحاف في حق انسان لا يفوقه أحد قناعة وطيبوبة واستقامة، وكأن القدر يلعب النرد..