الاثنين، 22 ديسمبر 2014


عاش أكثر من مرة، أولها يوم أسقطته أمه من بين فخديها صيفا وقت الحصاد، لم تتوجعه، نما وترعرع في كنف الجماعة، حتى إذا بلغ أشده أعان جماعته في تحصيل القوت. كانت قساوة الحياة هالكة، جفاف وأوبئة وضعف حيلة... غير أن سكان تلك الأرض كانوا أشد تسامحا وعونا، فكان لا يموت فيهم الواحد جوعا حتى يهلكوا جماعة، إذ كانوا يقتسمون محصول اليوم من الصيد أو القطف احتسابا، لم تكن المرأة تلزم البيت، بل البيت نفسه لم يكن، حيث كانت الجماعة دائمة الترحال، فُرض العمل عينا لضمان الكفاف لا الرغد، لم يكن للأمومة أي معنى، كل نساء الجماعة أمهات لأطفال الجماعة كلها، دون تفضيل ولا تمييز ولا تخصيص، مات صديقنا قرير العين موجع الأمعاء...
أنجبته أَمَة (الأمة أنثى العبد) بقلعة شامخة، لم تملك منها شبرا ولا حصيص، تكلفت برعايته أمات كثر، حتى اختلطن عليه، لم يعرف إن كان أبوه من الأسياد أم من العبيد، ولم يَقُض ذلك مضجعه، فحسبه أن أدرك موضعه، كان أسمرا شديد الحسن والجمال، أدركه الرشد راقصا، لم يملك لنفسه قرارا، كلما دنى المغيب تهيأ زينة ولباسا، حتى يستعرض ما حنكته السنين الطوال، كانت أيامه رتيبة، كانت تصيبه النخوة كلما أصاب رضى أسياده، فجعل رضاهم كل مقصده، وكان ذاك مثار غيرة غيره، كان على ذاك الحال حتى باغتته المنية دون روية...
مرة أخرى يجد نفسه هائما وسط مروج وروضات فسيحة، تكاد تغيب لها الحدود، كان والده تحت إمرة أحد القطاع، لم يعي الفتى الحرمان حتى اشتد عوده، كانت أسرته تنفق ستة أيام في الأسبوع خدمة للإقطاعي، حتى إذا جاء يوم الأحد، تداركا حاجة ما بحوزتهم اشتراطا، أي ماداموا تحت إمرة مالكها الحقيقي، قلما كان يرميهم بالفتات، رغم أنهم يطمحونه استنزافا لطاقتهم وإظهارا للحنكة في العمل، عساهم ينالوا نزرا فوق الحاجة. أنْهِكَ فتانا عجزا حتى ذبل جسده وانحل، ثم مات..

التقيته أمس، لم أسأله عن تفاصيل ولادته، اشتغل أجيرا ذا دخل قار، لم يمتلك حظوظ إنمائه، ولا هامش مؤاربة مشغِّله، إذ كانت الزيادة في أجره رهينة بزيادة أجر كافة زملائه في العمل، مرة أخرى لم يمتلك شيئا، فلا المصنع ولا الآلات في ملكه، جاءَ المصنعَ بقوة ساعديه، يُنفقها طُول النهار ويعوضُها في آخِره، حتى يتمكن من مُعاودة الإنفاق في اليوم الموالي، حتى ذهنه يغيب وقتَ العمل، لم يكن بحاجة إليه، فالعملية الميكانيكية التي كان يكررها على مدار الاثنتي عشر ساعة التي كان يشتغلها، استلبت عقله وجسده، عجب لعبث الدنيا، نَدب حظه ورحل عنا إلى الأبد..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق