الاثنين، 22 ديسمبر 2014

استند إلى حائط طيني مستنشقا دخان سيجارته الرخيصة، تجاعيد وجهه تواري مأساة عمر أنهكته تكاليف الحياة، لا تحمل تراسيم وجهه أي حسن، تقتحمه العين ولا تكاد تثبت فيه، كأنما سوي على عجل، فزادت بعض أطرافه حيث وجب أن تنقص، ونقصت حيث كان يحسن أن تزيد، تقوس ظهره لا لفرطه في العمر، لكن محن الدهر أذبلت قامته. فاضت مخيلته بذكريات ماض أليم، اغرورقت عيناه بالدموع تحسرا على افول عنفوان شبابه قبل بلوغ ذروته، استذكر فيما استذكر بشرى تسلم أول وظيفة، انتظرها طويلا وجاءته نعمة وقت اشتداد المحن، تذكر جلسته الأولى في حضرة رب عمل ناشئ، رحب به والابتسامة تملأ فاهه، وأقعده إلى جانبه، أعجب رب العمل بملكات المعطي المعرفية، وبرصيده التدريبي غير المؤدى عنه، وبشره باستلام الوظيفة في الحين، غير أن حداثة المنشأة كانت مبرر تدني أجور موظفيها، فسأله الصبر إلى حين اشتداد عودها، اطمأن المعطي لحديثه، لم يعر أصلا أي اهتمام لقدر راتبه، همه الأول ضمان الوظيفة وإسعاد أمه المعوزة التي طالما رفعت ساعديها إلى السماء أملا في أن تمطر ابنها وظائف.
مرت ثمان سنوات كاملة، دون أي تحسن جدي في راتب المعطي، كلت ساعديه لانكبابه روحا وجسدا في عمله، راكم البرجوازي الثروة حتى تعفن، فتح مشاريع جديدة واقتحم مجالات تجارية مختلفة، وأصبح المعطي لا يرى وجه مشغِّله إلا في مناسبات نادرة وعلى بعد أميال، نهش الدهر عظام المسكين، كان اسمه ضمن المُسَرَّحِينَ من العمال يوم عزم رب العمل استبدالهم بيد عاملة رخيصة، ذهل المعطي بالقرار، مقت كل ذي ثراء، مقت أرباب العمل وتمنى شنقهم على أبواب المصانع، مقت القدر الذي سفَّله إلى أحط البشر.

أخذ بعضا مما ادخرته زوجته من مال، اشترى كيس "نعناع" كبير، و"ترس" سجائر، وبدأ يتاجر فيها ويناور السلطات، حُجزت سلعته أكثر من مرة، فأيدي الغدر لا تُفلت البؤساء، كان آخر حجز يوم استند إلى الحائط الطيني مستنشقا دخان سيجارته، ومستذكرا ماضيه الأليم..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق