الاثنين، 22 ديسمبر 2014



أحكم ربطة عنقه الحمراء، وضع على الجانب الأيمن لمعطفه عطرا أهداه له أبوه الخبير في جودة العطور، عطر ليس ككل العطور، استلمه يوم عيد ميلاده الأخير... اتجه نحو مائدة الإفطار، وجد زوجته بانتظاره، فطرا سويا، عاد إلى غرفة نومه ليأخذ نظارته الشمسية، وجد قربها رسالة دأبت أمه على كتابتها كل صبيحة اثنين منذ أن أدرك القراءة، تدعو له فيها بالتوفيق والنجاح...
غادر البيت مٌقِلا سيارته صوب مكتبه الواقع بشقة في منتهى الرُّقِي، وجد في انتظاره أحد زبنائه المُتْرفين، وهو أحد الفاعلين الجمعويين المحليين، ماسكا بيده صبيا يبدو أن سنه لا يتجاوز الثالثة عشر، ملابسه رثة متسخة، وجهه مليء بالخدوش، نظراته قاسية ثاقبة.
قال الزبون: لقد جئتك به قصد العلاج، إنه يعاني أزمات نفسية حادة، تلقفته من الشارع، ستتكلف الجمعية بمصاريف العلاج.
وافق الدكتور النفسي رغم بعض التحفظ والقرف، أقعده في غير مجلس الزبناء، على أحد الكراسي الخشبية، لم يألف استقبال أشخاص من تلك الطينة، ولا ألف الإنصات إليهم.
بدأ الدكتور في استنطاقه بأنَفَة متعاظمة، والصبي يجيب بكلمات، بأجوبة قصيرة إن استوجب الأمر ذلك، وباستهزاء ألمعي في بعض المواقف، لم تُرْهبه فَخامة المكان، ولم يستصغره عطر الدكتور ولا هندامه الأنيق.
بدأ الدكتور يحس بالارتباك، استشعر ذكاء الصبي وفطنته، أراد أن ينهي المقابلة سريعا وبنصائح موجَزة:
- يا بني، أول ما عليك فعله هو تنظيف هيئتك، اعتني بهندامك، ستحس بالراحة، حاول أن تلهي نفسك بالقراءة والصلاة حتى تتخلص من بِلية "السيليسيون"، لا تأكل غير الطازج، فطبيعة الغذاء لها تأثير بليغ على المستوى النفسي / العقلي للفرد، حاول أن تنظم وقتك، حاول....
تَكلم كثيرا حتى أحس نفسه لم ينطق ذات معنى، استبصر ذلك من عيني الصبي المُربكة، سكت عن الكلام دون إدراك، ليردف الصبي قولا:
- وفِّر كلماتك لأشخاص من طينتك، لم أعرف أبا ولا أما تعتني بملابسي منذ فطامي، ليس لي مسكن يأويني لأشعر بالراحة، أحيى اعتباطا دون تخطيط، لست أختار طعامي، بل أصيبه توسلا، أو آخذه اختلاسا، خذ مكاني ساعة تخجل من كلماتك دهرا، مفاهيمك لا أستطيع إدراكها فهما، فكيف أدركها عملا، وفِّر كلامك، وفره...
قالها بغضب ومُرُوءةِ شَهْم، خرج دون استئذان، مُخَلِّفا طعنة حادة في نخوة الطبيب، لم يحاول ثنْيَه عن الخُروج، استحيى لكل كلمة تفَوَّهَها، غرِق للحظةٍ شرودا، قبل أن تأذن السكرتيرة بإدخال زبون آخر، أراد النظر إلى الساعة، لم يجد هاتفه المحمول: سحقا، أكيد أخذه الصبي...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق